الأب والصحة النفسية لأطفاله
كلما تقدم العمر بالطفل, يصبح من الضروري تعليمه توزيع حبه على كل من الأب والأم والأشقاء بدلاً من قصر تلك الدائرة على الأم وحدها
في السابق كان ينظر للأب باعتباره العضو الذي يقوم بإنزال العقاب على الأطفال كلما أخطأوا, ولكن مع تقدم الأساليب التربوية الحديثة, فإن وجود الأب في حياة الطفل أخذ اهتماما أكبر وأعمق من كونه المتولي شئون الإنفاق على الأسرة وبالأخص على أطفاله.
وقد تنتاب الطفل بعض المظاهر السلبية تجاه أبيه, عندها تتدخل الأم في محاولة لمنع هذه المظاهرة السلبية حينما تحاول إفهام الطفل بقولها: "يجب أن تحب أباك فهو الذي أحضر لك الحلوى", لكن هذه المحاولة تبوء بالفشل.
على أنه إذا دققنا النظر بحثاً عن الأسباب التي تمكن وراء هذه الظاهرة السلبية تجاه الأب, لوجدنا أن الأم قد تتحمل بعض التبعات, فعندما تقول الأم لطفلها: "عليك أن تكون هادئاً وإلا فإن والدك سيغضب", أو حينما تهدده بقولها: "سوف أقول كل ما يحدث منك لأبيك حتى يعاقبك" .. وغير ذلك, كل هذه العبارات تكون في عقل الطفل فكرة سلبية عن والده بوصفه شخصاً غير مستقر غضوبا, عصبي المزاج, يقوم في النهاية بتوقيع العقاب "بدنياً كان أو معنوياً".
على أي حال هناك مظاهر أصدق لتصوير الأبوة الحقيقية يمكن أن يكشفها الأب لطفله, فعندما يشارك الأب في رؤيته وإبداء رأيه للأشياء الجديدة التي جلبها للطفل, وعندما يشارك الطفل أمه في إعداد الشاي لوالده, وعندما تطلب الأم من زوجها إصلاح بعض الأشياء التالفة في المنزل بمشاركة الطفل نفسه, فإن مداومة هذا السلوك في مثل هذه الاتجاهات أو المسارات من شأنها أن تخفف من قلق الطفل نحو والده, وتجعله قريباً منه, متحمساً للبحث عنه أينما ذهب.
هناك اتجاهات والدية تنعكس بصورة أو بأخرى على تربية الطفل وتنشئته, بعضها ذو مردود إيجابي , والآخر ذو مردود سلبي. سوف نلقي الضوء على بعض هذه الاتجاهات التي تشكل في النهاية مردودا سلبياً على تربية الطفل, وهو ما ينعكس بالسوء على صحة الطفل النفسية لنتجنبه ونتحاشاه:
أولاًـ إغفال قدرات الطفل:
قد يكون الأب مولع بدراسة الطب ولاكن ظروفه لم تمكنه من تحقيق ما كان يأمله, ومن ثم فإنه يزيح طموحه هذا نحو أحد أبنائه, فيجبره على أن يلتحق بكلية الطب حتى يستطيع أن يحقق في حياته ما كان يتوق إلى تحقيقه, وقد تكون ميول هذا الابن واستعداداته العقلية والشخصية أدعى إلى توجيهه لدراسة أخرى في الفنون مثلاً أو الآداب, ولكن الأب يغفل كل ذلك ويندفع إلى تجاهله, عندها يكون الفشل من نصيب ذلك الابن, ونحن نعلم أن الفشل يؤدي إلى اعتلال الصحة النفسية.
إنه ليس من شيء أبعث إلى الأسى من ابن شاء حظه العاثر أن يرث أهلاً لا يسمحون له بالنمو الطبيعي ويحرمونه فرصة تكوين شخصيته تبعاً للخصائص العقلية والنفسية التي وهبها الله له.
ثانياًـ التساهل والإهمال:
قد يقاسي بعض الآباء في مطلع حياتهم من الأساليب اللاتربوية التي كانوا يعاملون بها في أسرهم, من ظلم واستبداد, الأمر الذي يؤلمهم فيكبتونه كخبرة سيئة, عندها يتشكك هؤلاء الآباء في قيمة النظام والسلطة, فيتركون أطفالهم يفعلون ما يشاءون بلا ضابط أو رابط, فيؤدي هذا إلى تنشئة أطفال لا يحفلون بمراعاة القواعد والأصول سواء داخل المنزل أو خارجه.
أما الإهمال فهو ترك الطفل دون تشجيع من والديه, وخاصة الأب, على أي سلوك مرغوب فيه أتى به, أو دون المحاسبة على أي سلوك غير مرغوب فيه فعله وقام به, هذا بالإضافة إلى تركه دون أي توجيه إلى ما يجب أن يفعله من سلوكيات أو ما لا يفعله.
ثالثاً: التدليل وفرط الحماية:
يتمثل التدليل في تشجيع الطفل على تحقيق معظم رغباته الملحة وغير الملحة في التو واللحظة دون تأجيل. وقد يتضمن التدليل تشجيع الطفل على القيام بألوان من السلوك قد نعتبرها معيبة, أو من الأساليب التربوية غير المرغوب فيها اجتماعياً, وقد يتضمن أيضاً دفاع الأب عن هذه الأنماط السلوكية غير المرغوب فيها ضد أي توجيه أو نقد يصدر عن الطفل من الداخل أو الخارج.
والطفل المدلل ينمو ضعيف الشخصية, يعتمد على الغير, وغالباً ما يسهل استثارته واستمالته للفساد, كما يتسم بعدم الاستقرار على الحال, وعدم النضج الانفعالي, ويتسم أيضاً بانخفاض قوة "الأنا" وتقبل الإحباط, وهذه بالطبع مؤشرات دالة على انخفاض الصحية النفسية.
رابعاًـ التفرقة في المعاملة:
يتمثل أسلوب القسوة في استخدام أساليب العقاب البدنية, وهذا الأسلوب الذي يقوم به الأب ـ عادة ـ تجاه أطفاله يترتب عليه اعتلال خطير في صحتهم النفسية, والطفل الذي يعتاد الضرب المبرح هو طفل ينزع إلى التمرد والعدوانية كوسيلة للتنفيس والتعويض فهو يخرب مثلاً ممتلكات الآخرين ويتلف حاجياتهم دون أي إحساس بالذنب.
أما التفرقة في المعاملة بين الأبناء فهو أسلوب لا تربوي, يعتمد على عدم المساواة بن الأطفال, والتفضيل بينهم حسب الجنس, أو ترتيب المولود, أو السن, فقد تفضل الأسرة الذكور على الإناث. عموماً فالطفل الذي يحابي على حساب أخوته أياً كان نوعه أو ترتيبه بين أخوته, هو طفل يشب أناني الشخصية, حقودا, يحب أن يستحوذ على كل شيء غير عابئ بالآخرين, شخصية تعرف حقوقها ولا تعرف واجباتها, تعرف ما لها وما عليها.
صار من المؤكد في مجال الدراسات التربوية والنفسية الخاصة بتنشئة الأطفال ومراعاة صحتهم النفسية. ان علاقة الطفل بأمه في السنوات الأولى من العمر المتوطدة على أساس من الحنان والرعاية وإشباع الحاجات البيولوجية والسيكولوجية وغيرها, تمهد السبيل له بالثقة بالنفس, والتعرف على ذاتيته, وتحقيق الشعور بالانتماء والطمأنينة. وعلى هذا.. فقد نسلم بأن مهمة تربية الأطفال في سنيهم الأولى, مهمة تقع على عاتق الأم أكثر ما تقع على عاتق الأب, ولكن أساليب التنشئة الحديثة ترى أنه لا بد أن يشارك الأب في مثل هذه التربية. طبيعي أن يختلف دور الأب عن دور الأم كما وكيفما وفقا لمراحل النمو التي يمر بها الطفل, ولكنه دور حيوي بلا شك.
إن مشاركة الزوج زوجته بشأن تربية الأطفال ـ سواء كانت الزوجة تعمل أو لا تعمل ـ هي في المقام الأول ضمان لصحة الطفل النفسية, فرعاية الآباء لأبنائهم تجعلهم يشعرون بمتعة شديدة لأن وجود الأب وسط أولاده يهيئ دفئاً عاطفياً حميماً, وهو من شأنه أيضاً أن يدعم مفهوم المشاركة من أجل خلق مناخ صحي وسليم في العلاقات بين أفراد الأسرة جميعاً, وفي مثل هذا المناخ يكون للأب دوره الفعال والمؤثر في مساعدة أبنائه على تحقيق أهداف التنشئة السليمة, وهي تنمية ما لديهم من إمكانيات ذهنية ووجدانية إلى أقصى حد ممكن.
كما أن وجود الأب بين أطفاله في المنزل أساسي وجوهري إذا كنا نبغي تربية سوية لأطفالنا, لأنه من خلال هذا الوجود يتعرف الصغار على صفاته ومميزاته وثقافاته وخبراته فالأطفال بطبيعة الحال يأخذون عن والدهم الشيء الكثير.
والأبناء ينظرون إلى والدهم على أنه المثل الأعلى والقدوة الصالحة, بل ويأخذ بعض الصغار كلام الأب على أنه كلام مصدق لا يقبل النقاش, وينفذونه كما لو كان قانوناً.
وهناك بعض المواقف التي تستدعي من الأب أن يقف منها موقفاً حازماً قوياً, ويمكننا القول أن الطفل في مراحل نموه المختلفة يخشى الأب ويهابه, والطفل على أي حال يحتاج نفسياً إلى هذه السلطة, حتى يتبين المواقف التي تحظى بتأييده والأخرى التي ينهى عنها ويمنعها. إن عدم وجود هذه السلطة أو ممارستها زيادة أو نقصا بطرق خاطئة, تعد من أهم العوامل التي تبعد الطفل عن الطمأنينة, وتبذر في نفسه بذور الفزع والخوف وهو ما ننهاه ونحذر منه.
ومن واجبات الأب تجاه أطفاله إقامة حوار معهم في مشاركة حميمة, بحيث تكون حياته مسخرة لهم, يشاركونه فيها بكل الحب والود والصراحة, فلا تكون حياته منغلقة. والمشاركة من وجهة نظرنا هي التي تعني أن يكون هناك تبادل وجداني وفكري ما بين الأب وأطفاله.
وكثير من الآباء لا يكترثون بأهمية المشاركة بينهم وبين أبنائهم, وكثير منهم أيضاً يهضمون هذا الحق فهم منشغلون ـ دائما ًـ بمطالب الحياة وتبعاتها, يعملون ليل نهار لكسب قوتهم اليومي, حتى تمتلئ بطون أطفالهم وتكتسي أجسادهم, ولكنا نقول: أيها الآباء الوجبة ناقصة, والرعاية مبتسرة, فمازال هناك خواءً معنوي وفكري.
إن تشجيع الأب وتقديره هو إحدى اللبنات المهمة في بناء صرح الصحة النفسية للأطفال, إن الحب العملي الذي يمكن أن يقدمه الأب هو أن يثني على أطفاله في حنو ومودة, هذا الثناء الذي يبعث فيهم الدفء, ويفتق بداخلهم ينابيع الخير, ويضيء لهم طريق الحياة.
وإذا كنا في عهد قريب نمر بمحنة اجتماعية قوامها إيثار الذكور على الإناث, فإننا الآن نجد أن هذه الظاهرة المخيبة للآمال على وشك الزوال, إن لم تكن زالت بالفعل, ولكن ما زلنا نذكر أن هذا التمييز من شأنه أن يجعل جو الأسرة مشحوناً بالصراعات بين الجنسين, يمر بالعداء والكراهية.